السبت، 14 مايو 2011

الأمن في سورية أخرج الثورة و ألهبها و مازال مستمراً حتى يسقط النظام


لعل من أكثر ما يستثير أي إنسان - عاش في بلاد تحكمها المؤسسات و القوانين – و يهيج مشاعره و وجدانه

تلك العقلية المنغلقة التي تعالج بها حركة الاحتجاج للمطالبة بالحرية و الديمقراطية في سورية هذه الأيام من قبل القيادة السياسية و الأمنية و الإعلام الرسمي إضافة إلى مؤيدي هذا النظام و من ارتبطت مصالحهم به عبر الأربعين سنة الماضية.

حيث ينظر هذا النظام إلى دعوات التغيير سواء من الداخل أم من الخارج على أنها مؤامرة أمريكية أو صهيونية، الهدف منها النيل من قدرة سورية على التصدي و الممانعة للمخططات الأمريكية في المنطقة، و بغض النظر عن أهمية هذه الدعوات أو ضرورتها أو مدى الحاجة لها، فإن النظام يرى أن عليه اجتثاثها من الجذور و القضاء عليها في مهدها و إبادة كل من له علاقة بها من قريب أو بعيد.

و في نفس الوقت يتجاهل هذا النظام سوء الأوضاع الداخلية و انتشار الفساد المنظم في كل نواحي الحياة و ما يؤثر ذلك على تدني مستويات المعيشة و الخدمات الصحية و التعليمية و ازدياد نسب البطالة و الهجرة يوماً بعد يوم. وما وصل إليه الحال من كبت للحريات و قمع للمثقفين و العقلاء و انتهاك لكرامة المواطنين و تعطيل لمؤسسات المجتمع المدني، و تدخل الأجهزة الأمنية في كل شيء و إحكام سيطرتها عليه.

و يعتقد هذا النظام أن نهجه القومي العربي و مواقفه الخارجية تجاه القضية الفلسطينية و فصائلها و المقاومة الللبنانية و الأوضاع العراقية ، تكسبه المنعة في وجه قوى المعارضة في الداخل و الخارج  ضد أي قلقلات أو نزاعات داخلية كالتي حدثت في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و بالتالي فإن فكرة انفجار المجتمع و الانقلاب عليه مستبعدة تماماً.

و بالفعل استطاعت هذه السياسة طيلة السنين الماضية أن تقطع الطريق على كثير من محاولات التغيير أو الإصلاح، لتبقي زمام الأمور في يدها، بالاعتماد على فرض قانون الطوارئ و الأحكام العرفية و سيطرة الأجهزة الأمنية سيطرة تامة على مؤسسات الدولة و القضاء و الجيش والحياة عامة و السيطرة تماماً على مجلس الشعب و الحكومة أيضاً من خلال حزب البعث. و لم يعد باستطاعة أحد في طول الدولة أو عرضها القيام بأي إصلاح أو إجراء أي تعديل بدون موافقة القيادة السياسية و الأمنية مهما كان صغيراً أو بسيطاً.

و من أهم ما نتج عن هذه السياسة هو أن المواطن فقد الأمل في تحسين الأوضاع و ساد جو من الإحباط الشديد في الأوساط الوطنية في الداخل و الخارج سواء في صفوف المعارضة المنظمة أو المستقلة، حتى بعد أن بدأت الثورات الشعبية البيضاء هنا و هناك، لم يؤثر هذا على موقف أي من المعارضين للنظام و كانت التحليلات ترد من هنا و هناك تؤكد كلها على استبعاد حدوث أي من هذه الثورات في سورية و ذلك للأسباب التالية:
-          أن الرئيس بشار يحاول القيام بالإصلاحات و صحيح أنه تأخر كثيراً لكن مازال هناك الكثيرين الذين لا يرون في منحه مزيداً من الوقت أية مشكلة.
-          أن الطبقة الوسطى أو المثقفة الموجودة الآن في المجتمع السوري هي طبقة أوجدها النظام ظهرت بانتصار ثورة آذار و الحركة التصحيحية و باستغلال أحداث الأخوان المسلمين في بداية الثمانينات و القضاء على معظم الطبقة الوسطى من سنة سورية و مسيحييها إما بالقتل أو بالاعتقالات أو بالتهجير، و ولدت طبقة جديدة تعترف بالفضل و الجميل للنظام تسانده و تدافع عنه و تستفيد منه، و بالتالي لن تنتقده أو تظهر عيوبه، بل ستدعمه و تغطي عليه.
-          أن الجيش في سورية لم يبنى ليكون جيشاً وطنياً لحماية الوطن و الدفاع عنه بل بني ليكون جيشاً عقائدياً لحماية القيادة و العقيدة السياسية و الدفاع عنها.
-          وجود حرس جمهوري قد بني ليكون أقوى من الجيش في عدده و تعداده ليستطيع التغلب عليه إن حدث انقلاب، ولاؤه للرئيس و أسرته و ليس لمؤسسة الرئاسة و الوطن.
-          وجود الفرقة الرابعة التي يقودها ماهرالأسد فصيل مستقل عن كل من الحرس الجمهوري و الجيش، ذو طبيعة طائفية، كان قد أسسها رفعت الأسد تحت اسم سرايا الدفاع.
-          أن الأجهزة الأمنية قد أصبحت أقوى من الجيش و تسيطر على كل شيء و ولاؤها الذي كان للقيادة السياسية كاملاً أيام حافظ الأسد أصبح لقادتها ورجالاتها جزء كبير منه الآن و ليس للشعب فيه شيء.
-          القيادات في كل هذه القوى العسكرية و الأمنية ذات طبيعة طائفية إن لم تكن في معظمها قريبة من العائلة الحاكمة.
-          أنه قد تم القضاء على طبقة التجار المستقلين و استبدلوا بطبقة أخرى من التجار المنتفعين من شراكاتهم مع المتنفذين في الأجهزة الأمنية و الجيش و الحزب و الدولة، و أصبحت مصالحهم مشتركة.
-          أن القيادة السياسية قد عقدت التحالفات مع جميع القوى المؤثرة في الداخل سواء الحزبية أو الفئوية أو القبلية أو القومية و أعطت كلاً منها حصة من المنافع و المصالح و المزايا و المناصب في الاقتصاد و الدولة و الجيش مقابل ولائها.
-          أنها أفقرت الشعب و بات يوجد في سورية ما يقارب 60% من أهلها يعيشون قريبون من خط الفقر معظمهم من السنة لا يستطيعون التوقف عن العمل ليوم واحد و إلا يفقدون القدرة على شراء الطعام لأسرهم، و الباقي يجد نفسه مضطراً إلى الهجرة لأنه لم يقبل بالفساد أو بشراكة أبناء النظام، حتى وصل عدد السوريين في الخارج بحسب إحصائية وزارة المغتربين لعام 2004 إلى ما يقارب 18 مليون سوري، خرج معظمهم خلال حكم عائلة الأسد.
-          أن معظم الذين يعيشون في سورية قد ولدوا و عاشوا في ظل قانون الطوارئ و سيطرة الأجهزة الأمنية و رعبها و قمعها، لم يتذوقوا طعم الحرية أو الديمقراطية، و لم يسألهم أحد عن رأيهم في شيء أبدأ، كل ما يعلمونه عن الوطنية هو طاعة الرئيس و الأجهزة الأمنية و عدم مخالفتهم و العمل على كسب رضاهم بأي ثمن، و كلهم مقتنعون أن الانتخابات لا قيمة لها و لا بمن تأتي به و أن المظاهرالديمقراطية التي يصبحهم و يمسيهم بها الإعلام الرسمي إنما هي جزء من الصورة الكاملة للنظام لا يجور انتقادها أو الاعتراض عليها.

و بناء على ما تقدم فقد كان من المستبعد قيام ثورة أو انتفاضة أو حتى احتجاج ليس لأن ما يحدث هو بالأمر الذي لا يستدعي ذلك بل لأنه لا يوجد من يجرؤ على ذلك، و عملياً ظهرت دعوات كثيرة هنا و هناك و خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك و التويتر و غيرها و لم يستجب لها أحد على الإطلاق، حتى أيقن الناس في سورية - و كما قال الرئيس بشار الأسد في لقاء له مع الواشنطن بوست أن هذا الجيل ليس مستعدا للتغيير – أنه عليهم أن ينتظروا حافظ الإبن ليقوم بالتغيير.

و لم يعتبر أحد على الإطلاق أن الاحتجاج الصغير الذي خرج من سوق الحميدية يوم الثلاثاء 15 آذار الماضي و الذي ينادي بالحرية أو حتى الذي تبعه في اليوم الثاني مقابل وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي هو الذي فجر الثورة في سورية كلها، لا.


فالحقيقة أن من أشعل فتيل الثورة في سورية كان مدير الأمن السياسي عاطف نجيب في مدينة درعا قبل أيام من إعلان 15 آذار و ذلك من خلال اعتقال عدد من الأطفال لكتابتهم على الجدران "الشعب يريد إسقاط النظام" متأثرين بالثورات التي حدثت في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و الشعارات التي أطلقها الثوار خلالها.

هذه القصة المؤلمة التي نتج عنها اندلاع الثورة السورية من مدينة درعا. فبعد مراجعة أهالي الأطفال المعتقلين لفرع الأمن السياسي في مدينة درعا الذي اعتقلهم، قام رئيس الفرع عاطف نجيب بتهديدهم بالاعتداء على أعراضهم و سبهم و شتمهم مما  دفعهم إلى الالتجاء إلى محافظ درعا فيصل كلثوم الذي قام أيضاً بطردهم و شتمهم و لما أصروا على طلبهم في إخلاء سبيل أطفالهم لم يتردد كلثوم باستدعاء قوات الأمن المركزي لضرب الأهالي و فض احتجاجهم.

كانت الصدمة هائلة على الأهالي الذين نكبوا باعتقال أطفالهم على أيد جهاز أمن لا يعرف الرحمة و لا يردعه شيء من الأخلاق أو العقل عن إيذاء الأطفال و بالفعل هذا ما تم تسريبه لهم. و لما أسقط من يدهم و لم يجدوا من يلتجئوا إليه خرجوا في مظاهرة تدعوا للافراج عن أولادهم، هذه المظاهرة التي ووجهت بطريقة همجية و بإطلاق رصاص حي أدى إلى وقوع قتيلين أغضب أهل المدينة و استثارهم، و العجيب أن الأمن لم يترك فرصة لأهل الضحايا ليواروا جثامين قتلاهم إلى التراب بل عمد إلى قتل ثمانية آخرين خلال تشييع الجنازة، و هكذا انفجرت الأحداث.

و بدلاً من أن يسرع رئيس الجمهورية إلى استدراك الموقف و حل المشكلة بادر إلى إرسال مجموعة يغلب عليها رجال الأمن الذين زادوا الطينة بلة و أخرجوا الأهالي عن طورهم و فشل الوفد في حل المشكلة و إطلاق سراح الأطفال المعتقلين، مما دفع الناس إلى الإحساس بالإهانة المتعمدة و الاستعلاء عليهم و محاولة قهرهم و إذلالهم، و الذي نتج عنه خروج المظاهرات بالآلاف و التي تطورت إلى الاعتصام في المسجد العمري حتى تجاب مطالبهم و يطلق سراح أولادهم. و حتى المسجد العمري لم يشفع لهم فقد تم مداهمته ليلاً و قتل سبعة من المعتصمين.

و بالرغم من هذه التطورات المخيفة إلا أن الرئيس لم يتدارك الموقف و لم يخرج إلى الناس و لم يوقف المسئولين عن قتل الشباب العزل و استمرت الاحتجاجات و استفحل القتل في أهل درعا و اعتقال الشباب و تصفية الجرحى و المصابين أو اختطافهم و ملأت الدنيا المقاطع التي تصور إجرام أجهزة الأمن، وخرجت صرخات أهل درعا، مما استجلب أهالي حوران لنجدة أهلهم في المدينة و هكذا امتدت الاحتجاجات إلى عدد من قرى حوران و لم تغير أجهزة الأمن أسلوبها في التعامل مع الناس بل زادت إصراراً و زاد معه سقوط الضحايا من مختلف القرى المجاورة، حتى استلهب وقوع المزيد من الضحايا ضمائر السوريين هنا و هناك فخرجت حوران كلها و بانياس و اللاذقية و ريف دمشق و حمص و ريفها و القامشلي و دير الزور.

طبعاً لم تدرك القيادة السياسية طبيعة المشكلة و اكتفت بحل الحكومة و تكليف حكومة جديدة أسوأ من سالفتها إضافة إلى مجموعة من الوعود كسابقاتها و لم تتنازل لتفهم من الناس مباشرة و أصرت على المعالجة الأمنية للاحتجاجات مما أدى إلى مزيد من الضحايا و الاعتقالات. و كما سبق لم تغير القيادة طريقتها و تعاملت مع الأوضاع المتفاقمة بالعقلية ذاتها من الاتهامات بالعمالة و الخيانة و وجود المندسين و المخربين، ساعد على ذلك وقوف الإعلام الرسمي إلى جانب أجهزة الأمن و تبرير جرائمهم في حق الناس العزل إضافة إلى تلفيق الأخبار الكاذبة و تزوير الأدلة لإثبات الاتهامات الباطلة، أيضاً تم تسخير عدد من رجال الدين و الصحافة و الأكاديميين و الدبلوماسيين و الباحثين و المحللين لإثبات فكرة التأمر على الدولة و الخيانة لقضايا الأمة و اتهام المتظاهرين بالتخريب.

واتسعت الفجوة بين الشعب و دولته و قيادته، فلم يعد يثق الشعب برئيسه و لا بالقيادة السياسية أبداً. و مع استمرار القتل و الاعتقالات و تجاوز القوانين، بدأ العمل على اسقاط النظام و رأسه بإزالة كل ما يرمز إليه من عبارات أو صور أو مجسمات في كل مكان.

و قد ساعد في إقناع الرأي العام في الداخل و الخارج بإجرام و دموية النظام السوري في حق شعبه، الأخطاء الجسيمة للنظام في تعامله مع المحتجين التي تم تصويرها و فضحها على كل الفضائيات العالمية و العربية و على صفحات الجرائد و المجلات و في كل مكان. مما دفع الدول الأجنبية إلى انتقاد الحكومة السورية، و أعطى المبرر للمنظمات الحقوقية للعمل على جمع الأدلة و الإدعاء على النظام أمام المحاكم الدولية بتهم قتل المدنيين العزل.

و كان من أهم ما قامت به أجهزة الأمن بعد صدور المرسوم الرئاسي بإلغاء حالة الطوارئ في 18 أبريل أنها عمدت إلى إطلاق الرصاص الحي و إعمال القتل في المتظاهرين و ذلك يوم الجمعة 21 أبريل الذي عرف بالجمعة العظيمة والتي خرج فيها السوريون في كل مدن سورية، حتى تجاوز عدد الضحايا المئة. و لم تكتفي الأجهزة الأمنية بذلك بل عمدت إلى خطف الجرحى من المشافي و تصفيتهم و إلى مداهمة البيوت و اعتقال الشباب، متجاوزة المرسوم الرئاسي تماماً تؤكد للناس أن سورية هي دولة أمنية بامتياز و أن أجهزة الأمن فيها فوق كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق