في كل مرة كنت أدعى فيها إلى حفل ما أو أحضر مجلس عزاء ،
كان يطلب مني إلقاء كلمة أمام الحضور .. بعض الأحيان تكون الأفكار حاضرة و في
بعضها تعز علي فلا أدري كيف أستخرجها ..
و المحرج أن الأخوة لا يقبلون اعتذاري عن الكلمة و يقولون
لي : أستاذ أي شيء لا بد أن تلقي كلمة .. فأقول معتذراً: أيها الأخوة لا شيء في
جعبتي الآن .. فيقولون : معقول ؟!! أنت لا تجد شيئاً !! ..
و كان هذا في معظم الأوقات يحرضني و يعطيني حافزاً قوياً ،
إذ يفتح أمامي المواضيع كلها فلا أعود مكترثاً لموافقة المناسبة أو الأحداث الدائرة
فأستطيع الاقتراب و الابتعاد قدر ما أشاء.
و ما أن أمسك الميكرفون و أنظر في عيون الحضور حتى تبدأ
الأفكار بالانهمار، تهطل كأنها الأمطار ، لا أدري كيف ألملمها و أصنفها و أرتبها
.. لكن مع الوقت أصبحت متمكناً منها متحكماً بها .. حتى لتكاد ترى الناس في أكثر
الأحيان لا يريدونني أن أتوقف عن الكلام مهما أطلت .. و هذا من توفيق الله و فضله ..
إلا أنه في إحدى المرات كنت مع أحد الزملاء قد تصاحبنا
إلى حفل و كان الرجل قد سمع عني و يتحين الفرص لتقييمي .. و كنت أرى في عينيه و أحس
في رجفة صوته ، أنه يضمر لي شيئاً عجزت عن معرفته ، و بت جل الوقت حائرا في تفسير
ما أحسه منه .. لكن كنت قد أعددت خطاباَ جيداً يناسب الحفل ، و أعربت لهم عن نيتي
في مشاركتهم فرحبوا بي و طلبوا مني الاستعداد ، و كنت أقول في نفسي ربما يتغير حال
صاحبي مني بعد سماع كلمتي .. فلما حان الوقت اعتذروا أن يعطوا دوري لأحد الضيوف
على أكون بعده ، فأجبتهم ، فألقى الرجل كل ما أعددت من أفكار لم يترك لي واحدة
أنجو بها و كأنه كان يقرأ مما كتب في رأسي ، و مع كل كلمة كان يلفظها كنت أحس أني
إلى الموت أقرب ، و كلما كنت أهم بالانسحاب هرباً ، كان صاحبي يمسك يدي قائلاً
انتظر يارجل بات دورك وشيكاً .. حتى إذا انتهى تمنيت أن الأرض ابتلعتني فلا أرى
أحداً و لا أحد يراني .. و هكذا حتى نودي باسمي فخرجت فلم أدر ما أقول و بت ألمح
وأختصر و أوجز و أعتصر لا أعرف من أين أبدأ و لا كيف أنتهي و كلما نظرت إلى صاحبي
وجدته يلوح برأسه يمنة و يسرة فتزداد محنتي و تشتد أزمتي إلى أن لمعت لي نهاية
مشرفة انتهى معها مأزقي و فرجت بها كربتي .. فحمدت الله على ستر ماء وجهي و حفظ
كرامتي .. و عدت إلى مقعدي فجلست كأني قد عملت الدهر كله أعاهد نفسي على ألا أعد
كلمة مسبقاً .. و التفت إلى صاحبي فرمقني بنظرة و السعادة تملأ عينيه و قال مستهزءاً
أين الذي ألقيت مما ألقى الذي قبلك لكن لا بأس عليك قد أنقذت نفسك ..
فتذكرت ما قاله أبو الطيب المتنبي:
ومن العداوة ما ينالك نفعُهُ ومن الصداقة ما يضر ويؤلمُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق