التدوين و أثره في الثورة السورية
الثلاثاء 3 / 4 /2012
جميل داغستاني
لعله من المعروف أن التدوين بمختلف أشكاله و أنواعه لم يكن لتتاح له الفرصة في سورية في مجتمع يرزح تحت نظام أمني قمعي بامتياز كبت الحريات و كمم الأفواه و عطل الأقلام واختزل الإعلام بتمجيد القيادة و القائد ، حتى الوسائل التي من الممكن استغلالها في التدوين سواء الوسائل المتعلقة بتقنية المعلومات أو الطباعة و النشر الورقي لم تكن في متناول الأيدي ..
الفسح الإعلامي
كانت المجلات و الصحف حكرا على مؤسسات الإعلام الحكومي الرسمي فقط ولم تكن المجالس المحلية و البلديات أو غرف التجارة و الصناعة أو الجامعات أو المعاهد أو المسارح أو المراكز الثقافية أو النوادي الرياضية أو الثقافية و الأدبية باستطاعتها إصدار أية مطبوعة بدون إذن وزارة الإعلام و موافقة الأمن السياسي و العسكري و في غالب الأوقات لم تعطى لأي من هذه الجهات المذكورة تراخيص لنشر مجلات دائمة و إنما نشرات دورية لا تتعدى الأربعة في السنة و يشترط أن يتم الحصول على إذن طباعة و نشر لكل إصدار على حدة أي أربع مرات في السنة ..
طبعا و من يحصل على ترخيص كامل فحتما هو شريك لأحد أركان القيادات السياسية أو الأمنية .. و لذلك كان معظم الصحافيين السوريين لا يجدون إلا الدول الأجنبية أمامهم ليحصلوا على تراخيصهم منها ثم يبدأوا المحاولة لإدخال صحفهم و مجلاتهم إلى السوق السوري ، و حتى هذه كانت بحاجة إما للتعاون مع الاستخبارات السورية أو لشراكة شخص مهم جدا إضافة إلى الإلتزام بسياسية الحكومة تماما ..
الانترنت و تطبيقاته
وأما الانترنت فقد تم حصر استخدامه في نهاية تسعينيات القرن الماضي بالجمعية السورية للمعلوماتية و بعض أجهزة الأمن و على نطاق ضيق جدا ثم ما لبث أن أفرج عنه شيئا فشيئا للجامعات ثم بقية أجهزة الدولة ثم أتيح للمجتمع في إطار الاتصال الهاتفي المسمى "الدايل أب" و الذي كان من المتعذر معه تأسيس المواقع الإلكترونية أو التدوين بشكل عام و بقي استخدام الانترنت في غير التصفح متعذرا حتى بدايات القرن الواحد والعشرين بما في ذلك البريد الإلكتروني ..
و يشير إلى ذلك تأخر الدولة السورية في تطبيقات الحكومة الإلكترونية إلى أيامنا هذه التي لم تصل نسبة تفعيل الحكومة الإلكترونية إلى أكثر من الإعلان عن الخدمات و التعريف بها في أحسن الأحوال و لم تصل إلى حد تأدية الخدمات أبدا باستخدام الانترنت ..
و إذا علمنا أن الاتصال بالانترنت من مقاهي الانترنت حتى بعد أن فتح المجال أمام خدمة الـ "دي إس إل" كان يشترط فيه تسجيل الهوية و كانت الأجهزة كلها مراقبة ..
تجريم الصحفين
وما ظاهرة اعتقال الصحفيين لأقل الأخطاء و أتفهها في سورية إلا الظاهرة الأكثر غرابة على مستوى الجرائم السياسية التي يقع فيها الناشطون ضحية السياسات الأمنية و الرقابة الإعلامية المتسلطة الفاسدة ..
و أذكر أن ثلاثة صحفيين في جريدة العروبة الحمصية ، الصحفي الذي كتب الخبر و المدقق اللغوي و مسؤول الطباعة، تم اعتقالهم في عام 1996 لمدة ثلاثة أشهر بتهمة العمالة لإسرائيل و ذلك بسبب خطأ مطبعي في كتابة اسم باسل الأسد، تم التنكيل بهم و تعذيبهم و إهانتهم إلى أبشع الدرجات ..
اعتقال المدونين و الناشطين
هذا عدا عن الصحفيين و الأدباء و المدونون و الناشطين الحقوقيين الذين سجنوا لسنوات طويلة بسبب الكشف عن آرائهم مثل طل الملوحي و علي العبد الله و أكرم البني وجبر الشوفي وأحمد طعمة وفداء الحوراني والدكتور وليد البني والدكتور ياسر العيتي و أنور البني و هيثم المالح و الدكتور عارف دليله و الحقوقي نجاتي طيارة و المدون حسين غرير و الصحفي فايز سارة والبرلماني رياض سيف و الفنان التشكيلي طلال ابو دان, ومروان العش ومحمد حجي درويش و الحقوقي مازن درويش و المدونة رزان الغزاوي و المدون أنس معراوي .. و لعل التهم التي كانت توجه للصحفيين و الناشطين مثل تهمة "وهن عزيمة الأمة" و تهمة "إضعاف الشعور القومي" من أندر التهم و أدعاها للسخرية و الضحك و أوضحها لمدى تخلف هذا النظام الحاكم و غبائه ..
و مازال العديد من هؤلاء الصحفيين و المدونين حبيسي سجون الاحتلال الأسدي و لا ننسى المدون كريم عربجي الذي اعتقله النظام السوري خلال الثورة ثم أطلق سراحه بعدها ثم قام باغتياله في لبنان ..
و مازال العديد من هؤلاء الصحفيين و المدونين حبيسي سجون الاحتلال الأسدي و لا ننسى المدون كريم عربجي الذي اعتقله النظام السوري خلال الثورة ثم أطلق سراحه بعدها ثم قام باغتياله في لبنان ..
الثورة و الشبكات الاجتماعية و موقف النظام
و من رحمة الله في غباء هذا النظام المتخلف هو اعتقاده أن فسح المجال أمام الشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك و التويتر و اليوتيوب هو نوع من التحدي الذي قبله و أراد أن يثبت من خلاله قدرته على تجيرها لحسابه من خلال اكتشاف المعارضين و التجسس على أنشتطهم و فعالياتهم، إلا أن الباب كان فد فتح أمام جماهير المجتمع السوري المظلومة التي عانت من الكبت و الهيمنة ردحا طويلا من الزمن هذا الفتح أدى إلى انتشار الوعي السياسي و الاجتماعي بالمستقبل و الاطلاع على تجارب الثورات السابقة في تونس و مصر وليبيا كما ساهم في رأب الصدع فيما بين مختلف شرائح السوريين في الداخل والخارج و المدينة و القرية و البادية و الحضر و أدى إلى كشف الحقائق التي سعى النظام إلى طمسها و تغييبها، فتعزز التواصل بين أفراد هذا الشعب و انتشرت قيم جديدة تدعو إلى الحرية و الكرامة و العدالة و المساواة فكانت هذه الشبكات وسيلة ناجعة في أيدي المدونين الثائرين ..
فوائد التدوين
و بانتشار التدوين بمختلف أنواعه النصي و الصوتي و المرأي من خلال الكتابات و التحليلات و من خلال الأناشيد و الأهازيج و الهتافات و من خلال توثيق الأحداث بالتصوير استطاع الناشطون السوريون فضح نظام الأسد الأمني و كشف سرقاته و مؤامراته على الأمة ما قبل الثورة و فضح جرائمه و مجازره و عصاباته خلال الثورة و بالتالي أتت الثورة السورية في إطارها الإعلامي زاخرة بالأخبار و الوثائق و التقارير من كل مكان على الأرض السورية فلم يستطع النظام القيام بأية عملية إلا و وجد من يغطيها بالصور و الوصف .. و بهذا أفقد المدونون هذا النظام مصداقيته السياسية و كشفوا عورته الإعلامية المتمثلة بتلفزيون الدنيا و إعلامه الرسمي فكانت الهزيمة الأولى على جبهة الإعلام ثم السياسة ففقد شرعيته و طرد من كل المحافل الدولية بعد أن اتضح للقاصي و الداني تلفيقه للأكاذيب و قلبه للحقائق و إصراره على إراقة الدماء و قتل الأبرياء ..
عواقب التدوين
و بالرغم من تحقق هذا النصر الكبير على المستوى الإعلامي إلا أن أجهزة النظام استطاعت أن تستفيد من قلة خبرة العديد من المدونين أمنياً في نقلهم للأحداث و توثيقهم لمجرياتها و بالتالي تمكنت من الحصول على الكثير من المعلومات الهامة عن حركة المنشقين و أحوالهم و أماكن تواجدهم و طريقة تفكيرهم و إدارتهم للمواجهات مع قوات النظام ، إضافة إلى استغلال مقاطع الفيديو و الصور في التعرف على الكثير من النشطاء و المشاركين في المظاهرات المنددة بحكم الطاغية و أوقات خروجهم و تحركهم و أماكن تجمعهم و انظلاقهم و تحديد الفاعلين من بينهم .. فوقعت خسائر كبيرة في صفوف العسكريين المنشقين خصوصا في إدلب و حمص و الرستن و القصير كما طال الأذى أهالي كثير من النشطاء للضغط عليهم بتسليم أنفسهم .. كما أدت حالة الانفلات الكامل في عمليات التوثيق من صور و كتابات توصيفية للأحداث إلى توفير الأدلة الموصلة إلى عدد كبير من الداعمين الغير مباشرين للثورة و بالتالي إلى اعتقالهم و تعذيبهم .. كما وفرت هذه المدونات على اختلاف أنواعها معلومات و أدلة لعصابا ت النظام و شبيحته حول المتظاهرين من ذوي القدرة المالية الجيدة فتم اختطاف العديد من الشباب و الشابات و طلب الفدية لإعادتهم إلى ذويهم .. فكان الكم الهائل من مقاطع الفيديو على يوتيوب و الصفحات الإخبارية على الفيسبوك ليس فقط سببا هاما في رفع مستوى الوعي عند السوريين في الخارج و توفير مادة إعلامية للقنوات و الصحف الأجنبية بل كان أيضا مصدر معلومات هام و استراتيجي لأمن النظام ..
التدوين والثورة الإعلامية
في نهاية المطاف و بالرغم من كل المخاطر التي تعرض لها الناشطون و بالرغم من كل الآثار السلبية الغير متوقعة و بالرغم من كل الدمار الذي حصل في العديد من القطاعات الاقتصادية و التعليمية و الصحية إلا أن إعلاما سوريا جديد خرج من رحك هذه الثورة على أيدي المدونين و الناشطين بقيم جديدة و مبادئ جديدة ، الحرية عمادها و تقبل الرأي الآخر أساسها ، أعاد بناء كوادره و فنييه و أعاد ترتيب صفوفه من جديد واستطاع في السنة الأولى من عمر الثورة أن يكسب ثقة السوريين و تعاونهم و حجز مكانه في الساحة الإعلامية السورية و العربية بأكثر من ستة قنوات فضائية و عدد أكبر من المجلات و الصحف الداعمة للثورة و عدد كبير من الإعلاميين و الصحفيين ، كل هذا و أكثر مما أعطى للتدوين بعده المتوقع و تأثيره الطبيعي في دعم العمل الإعلامي و التفاعل معه .. و رب ضارة نافعة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق